المرقش الأكبر

المرقش الأكبر … الشاعر المُتيَّم

كان غارقًا في حبِّ أسماء بنت عوف بن مالك ابنة عمه، ففاضت أشعاره بالوجدان والعاطفة

أصابَ المرقش الأكبر داءُ العشقِ حتى أَردَاه، ولم يَنلْ منه مطلبَه ولا مُبتغاه، فجعل شِعره وقْفًا في حب أسماء، وهَامَ على وجهه طالبًا من أجلها العلياء، فعاشَ حياته مُتيَّمًا، على لظى الشوقِ مُتحرِّقًا، ولقى حتفَه على أعتابِ الهوى دون معشوقته مُشرَّدًا.

من هو المرقش الأكبر ؟

المرقش الأكبر هو عمرو بن سعد بن مالك بن ضبيعة بن ثعلبة من بكر وائل، وقيل: إنه ربيعة بن حَرملة بن سعد بن مالك، وهو أحد الشعراء الجاهليين المُتيَّمين، يَمنيّ المَولِد وعراقيّ النشأة، وكانت ولادته نحو عام 500م، واستوطن قومه شرقيّ الجزيرة العربية، وهو عمّ المُرقِّش الأصغر، وقد غلب عليه لقب المرقّش لبيت شعر قاله واصفًا ديار محبوبته، والأكبر تمييزًا له عن ابن أخيه، ومعنى رقّش أي زيّنَ وأحسنَ وزخرف، والبيت هو:

الدارُ وحشٌ والرُّسومُ كما ..

رقَّشَ فِي ظَهرِ الأَديمِ قَلمْ

أرسله أبوه هو وأخاه إلى نصراني من أهل الحيرة ليعملهما الكتابة والخط، وهو ما ميزه عن كثير من شعراء الجاهلية الذين لم يحسنوا الكتابة، فعوّلوا حفظ أشعارهم على الرُّواة، وقد شارك المرقش الأكبر مع قومه من بني بكر بن وائل حروبهم ضد قبائل تغلب، وأظهر فيها شجاعته، وأشهرها حرب البسوس التي نشبت بين بكر وتغلب واستمرت أربعين عامًا، وكان أبوه سعد بن مالك قائد قومه فيها.

وقد اتصل المرقش الأكبر عام 524م بالحارث بن أبي شمر الغساني ملك الغساسنة في بلاد الشام، ونادمه فترةً من الزمن، فاتخذه الحارث كاتبًا.

في حب أسماء : –

لم يكن المرقش الأكبر كسائر شعراء الجاهليه مُنشغلًا في أشعاره بالحديث عن الحروب والصراعات القَبَلية والفخر؛ فقد كان غارقًا من رأسه حتى أُخْمُص قَدميه في حبِّ أسماء بنت عوف بن مالك ابنة عمه، ففاضت أشعاره بالوجدان والعاطفة المُتيَّمة والمُتحرِّقة شوقًا إلى محبوبته بعيدة المَنال.

ولما طلب المرقش الأكبر محبوبته للزواج؛ أبى أبوها أن يُزوجها إياه إلا أن يصبح ذا شأن ومال، ويُعرف بين الناس بالبأس، فضربَ المرقش في الأرض طالبًا العلا من أجل أن ينال معشوقته، لكن في أثناء غيابه ضاقت ذاتُ اليدِّ بعمه، وأقبل عليه الطالبون لابنته الحسناء من الأغنياء والوجهاء، فزوجها لرجل من بني مراد أغدق عليه الأموال، وساق إليه مائةً من الإبل مهرًا لابنته، وعلى ما يبدو أن المرقش كان مهووسًا بأسماء لدرجةِ أن أخفي عنه قومه وأهله نبأ زواجها خوفًا عليه، وذبحوا كبشًا ودفنوا عظامه في موضعٍ، وأخبروه أنها قد ماتت، ودفنوها في موضع ذاك الكبش، فدَخلَت عليه الكذبة وكأن موتها كان أهون عليه قليلًا من نبأ زواجها بغيره، وظلّ يذهب إلى قبرها يبكيها ويَنشد أشعار ألمه وحزنه لفراقها.

وذات يومٍ وهو عند القبر المزعوم؛ إذ تشاجر بعض الأطفال من أهله أمامه، وذكروا قصة الكبش المدفون بالقبر، فسمعهم واستجوبهم حول الأمر، فعلم بزواجها في بني مراد، فعزم أن يذهب إليها، وانطلق ليجوب الفيافي قاصدًا ديارها، واصطحبَ معه عبدًا له من غُفيلة وزوجته، حتى إذا كانوا قُبيل نجران، مرض المرقش مرضًا شديدًا، لم يستطعْ معه أن يمشي إلا مَحمولًا، فنزلوا بكهفٍ بأسفل نجران، وهي أرض بني مراد، ولما اشتدت علي المرقش وطأة المرض، وبَدَا لرَفيقَيه أنه على شفا حفرةٍ من الموت، تهامس العبدُ وزوجه حول الرحيل دونه بعدما اشتد بهما الجوع وتملّكهما اليأس من نجاته، فسمعهما المرقش فكتب على مؤخرة الرّحل الذي كان معهم أبياتًا راجيًا أن يقرأها أحدٌ من قومه أو إخوته فيُدركوه، وينتقموا له من العبد الغُفليّ الذي غدر به وتركه في مرضه، إذ يقول:

يا صـــاحِبـــيَّ تَلَــوَّمـــــا لا تَعْـجَـــــلا .. إنَّ الــرَّحيلَ رَهِينُ أَنْ لا تَعْذُلا

فَلـعَـــلَّ بُطــأَكُمـــــا يُفَـــــرِّطُ سَيّئـــًا .. أو يَسْبِـقُ الإِسْراعُ سَيبًا مُقبِلا

يا راكِبــــًا إِمـــــا عَرَضتَ فَبَلَّغــنْ .. أَنَـــسَ بنَ سَعدٍ إنْ لَقِيتَ وحَرْمَلا

للّــهِ دَرُّكُـــمـــــــا ودَرُّ أَبِيكُــمـــــــــا … إنْ أَفْلَتَ الغُفَلِيُّ حتَّى يُقْتَلا

مَنْ مُبلِــغُ الأَقْـــوامِ أَنَّ مُـرقَشــــًا .. أَمْسـى على الأَصحابِ عِبئًا مُثْقِلا

ذَهَـبَ السِّبــاعُ بِأنْفِـــــهِ فَتَــرَكْنَــهُ .. أَعْثــى عَلَيْهِ بِالجِبالِ وجَيْئَلا

وكـــأنَّمـــــا تَــرِدُ السِّبــــاعُ بِشِـلــــوهِ .. إذْ غابَ جَمْــعُ بَني ضُبَيْعَةَ مَنْهلا

المرقش الأكبر .. الشاعر المبدع .

فلما رجع الغفيليُّ إلى أهله، أخبرهم كذبًا أن المرقش قد مات، إلا أن حرملة أخا المرقش قرأ القصيدة المكتوبة على الرَّحل، فجزمَ بكذبه، فاستنطقه حتى اعترف بحقيقة الأمر، فانطلق حرملة قاصدًا الكهف الذي فيه المرقش.

المرقش الأكبر و الرّاعي :-

قُبيل وصول حرملة إلى الكهف، وعندما كان المرقش الأكبر يصارع المرض والوحدة فيه؛  إذ أقبل عليه راعي إبل، فسأله المرقش عمن يكون، فعلم أنه راعي إبل زوج أسماء بنت عوف، فطلب منه أن يضع خاتمًا له في اللبن الذي يرسله الراعي إليها، ففعل الراعي، ولما وجدت أسماء الخاتم عرفته، وسأل زوجها الراعي فأخبره أن رجلًا على وشكِ الموت في كهفٍ أسفل نجران طلب منه ذلك؛ فذهبت أسماء وزوجها ليُدركاه، ثم أحضراه إلى دارهما.

وفاةٌ على أعتاب الحبيبة :-

ولما بلغ المرقش الأكبر دار أسماء، كان يحتضر بالفعل، ويبدو أن هذا هو أقصى ما استطاع أن يظفرَ به من محبوبته أنْ يمت على أعتابها، مُتحسّرًا على أطلالِ سنوات عمره التي قضاها هباءًا راجيًا قربها، وقُدّرت وفاته نحو سنة 552م (70ق.ھ)، وذُكر أنه أنشد قُبيل وفاته قائلًا:

سَـرى لَيْلًا خَيـــالٌ مِنْ سُلَيمــى .. فــأَرَّقَنـي وأصحابي هُجُودُ

فَبِتُّ أُدِيــرُ أَمْـرِي كــــلَّ حـــــالٍ .. وأَرْقُـبُ أَهْلَها وهُمُ بعيدُ

عَلــى أَنْ قَدْ سَمـــــا طَـرْفِــي لِنـــارٍ .. يُشَــبُّ لها بذِي الأَرْطى وَقُودُ

حَــوالَيْهــــا مَهــا جُــــمُّ التَّــراقــي .. وأَرْآمٌ وغزلانٌ رُقُودُ

نَواعِــــمُ لا تُعـــالِــــجُ بُــؤسَ عَيــشٍ .. أَوانِسُ لا تُراحُ وَلا تَرُودُ

يَزحنَ مَعـــًا بِطــــاءَ المَشــيِ بُدًّا .. عليهنَّ المَجاسِدُ والبُرُودُ

سَكَـــنَّ ببلدَةٍ وسَكَـنتُ أُخـــرى .. وقُطِّعَـتِ المواثِقُ والعُهُودُ

فَمـــا بالــي أَفِــي ويُخـــانُ عَــهْدِي .. ومـــا بالي أُصادُ وَلا أَصِيدُ

ويبدو أنه كان يتنبأ من قبل في أشعاره السابقة، أن نهايته ستكون في سبيل حبه لأسماء وملاحقته لها فيقول:

وإذا مـــا سَمعتِ من نحـــوِ أرضٍ .. بِمُحِـبٍّ قد ماتَ أَو قِيلَ كادا

فاعْلَمِــي غيــرَ عِلْــمِ شَــــكٍّ بأنِّـــي .. ذاكِ وأبكِي لِمُصْفَدٍ أَنْ يُفادى

أو تناءت بــك النّـــوى فلقد قـدتِ .. فـــؤادِي لحِينه فانْقادا

ذاك أنِّي علقتُ منك جَوى الحبّ .. وليدًا فزدتُ سنًّا فزادا

مُفضليات المرقش الأكبر :-

من بديع ما نظم المرقش الأكبر ؛ أورد له المفضل الضبي اثنتي عشرة قصيدة ومقطوعة في المفضليات، أغلبها في الغزل ،والحب، والحماسة منها:

أَمِنْ آلِ أَسماءَ الطلُولُ الدَّوارِسُ .. يُخَطِّطُ فيها الطَّيرُ قَفرٌ بَسابِسُ

ذَكَــرتُ بها أسمـــاءَ لو أَن وَليَهـــا .. قَرِيبٌ ولكن حَبَّستنِي الحَوابِسُ

ومَنــــزِلِ ضَنْــكٍ لا أُرِيــدُ مَبِيتَــهُ .. كـــأنِّـي بهِ من شِدَّةِ الرَّوعِ آنِسُ

لِتُبصِــرَ عَينـي أَن رَأَتنِــي مَكانَهـــا .. وفــي النَّفْس إنْ خُلَّي الطَّريقُ الكَوادِسُ

وَجِيـفٌ وإِبســـاسٌ ونَقـــرٌ وهِـــزَّةُ .. إلــى أَن تَكِلَّ العِيسُ والمرءُ حادِسُ

ودَوِّيَّةٍ غَبراءَ قد طــالَ عَهدُهــا .. تَهــالَكُ فيها الوِردُ والمَرْءُ ناعِسُ

قَطَعتُ إلى مَعرُوفها مُنكَراتِها .. بِعَيهامَةٍ تَنسَلُّ واللَّيلُ دامِسُ

ويقول المرقش الأكبر في الكرم والضيافة :

إن تُبتَدر غــايــةٌ يومــاً لمكــرُمَــــةٍ .. تَلْــقَ السَّوابِقَ مِنَّا والمُصلِّينَا

وليـسَ يهـلـكُ مِـنَّــــــا سَيَّــدٌ أبَـــدَاً … إلَّا افتلينا غُلامَاً سيداً فينا

شعثُ مفارقنــا ، تغلـــى مَرَاجلُنَــا .. نأســـوا بأموالِنَا آثارَ أيدينَا

المُطْعِمُــونَ إذا هبَّتْ شـــآمِيَـــةٌ .. وخيــرُ نَادٍ رآهُ النَّاسُ نادِينَا

المصادر:-

  • الأصفهاني، الأغاني، ج5،ص179.
  • البغدادي، خزانة الأدب، ج3،ص202.
  • ابن قتيبة، الشعر والشعراء، ج1، ص205،206.
  • المفضل الضبي، المفضليات، ص224.
  • عمر فروخ، تاريخ الأدب العربي، ج1، ص129،130.