البحر الهلالي بقلم يحيى المحيريق

البحر الهلالي سهل على الشعراء المتمكنين ولكنه ليس كذلك على ذوي المستويات العادية .. نعم مع أن قافية الصدر مفتوحة منذ البيت الثاني من القصيدة كالفصيح تماماً من حيث نظام القافية؛ إلا أن ذلك البحر له جرس وإيقاع خاصان به يقدرهما الشاعر بطريقة إيحائية وغير قياسية سمعت الشاعر الكبير المرحوم / سليمان الهويدي في الكويت يقول ذات مرة ونحن في مجلسه العامر بإسطبل الخيل الخاصة به وأنا في بداية حياتي من حيث الشعر والسّن : البحر الهلالي لا يغنى ، عرفت فيما بعد أنه كان يقصد أنه لا يمكن وضع تفعيلة دقيقة له . أيضاً من خواص البحر الهلالي أنه في البيت الأول من القصيدة يربط قافية الصدر بقافية العجز ثم تُهمل قافية الصدر ابتداء من البيت الثاني للقصيدة حتى نهايتها ويكتفى بالتقيد بقافية العجز، يشارك الهلالي في هذه الخاصية البحر الصخري وبحر أخر لكن الصخري وهذا البحر الأخر اهمال قافية الصدر فيهما جوازاً، يعني إذا رغب الشاعر أن يبني القصيدة على قافيتين للصدر والعجز يجوز له ذلك، إما الهلالي فإن إهمال قافية الصدر منذ البيت الثاني وجوباً وهذا من الشروط الأساسية لهذا البحر . مرّت علي قصائد الكثير من الشعراء على البحر الهلالي لشعراء قدامى جداً قبل عصر النهضة وشعراء في عصر النهضة وشعراء أعلام معاصرين ووجدت أن البحر الهلالي يدور في ثلاث حالات أو صيغ ؛ فمنه الطويل، ومنه الواسط، ومنه القصير، وقد تجمع قصيدة واحدة لعلم من أعلام الشعر تلك الحالات والصيغ الثلاث . ونستطيع القول أن الصيغتين الثانية والثالثة أُلحقت بالهلالي أو اشتقت منه ، وأحياناً يكون صدر البيت على البحر الهلالي الأساسي الطويل والعجز على القصير، ويلاحظ أن عجز البيت في هذا البحر الهلالي القصير لو سبقه صدر للبيت على نفس الوزن واختير له قافية ذات جرس وإيقاع مناسب صار على بحر غير الهلالي،

كفول الشاعر الكبير خلف العتيبي :

ضيقت صدري ياحمام الدار

من سمع صوتك جر له ونه

القلب كن يدّق به مسمار

والفكر ضيّع واختلف ظنه

والأن نسوق مثال للهلالي الذي يقارب نوعاً ما لهذا البحر ولو بطريقة جزئية

قال بريك الأسعدي رحمه الله :

يشيرون بالفرقا ولا عاد لي هوى وكل على لا ماهواه يشير

شدوا من المقطان كل بنية ولم النيا عقب الفراق عسير

لاحظوا صدر البيت الأول في المثال على صيغة الهلالي الأساسي

بينما العجز يقارب للبحر الذي أوردنا عليه أبيات الشاعر خلف العتيبي، ايضاً من اطلّع على قصيدة المرحوم بريك كاملة سيلاحظ أنه أسترسل في سرد قصيدته بمبادلة تخللها حالات مدٍ وجزر حتى لامست أو طابقت في صدر أو صدرين للمسحوب كقوله :

شدوا من المقطان كلٍ بنية .. يشابه هذا ايضاً قول ابن عشيمان في مساجلته معي؛

واهتز غصن السدر من شعف بارق

ولكنها مبادلة عجيبة يسترسل فيها الشاعر بقياس سمعي وتقديري يشابه لو جاز التعبير قياس التناغم بين عبارات الشعر الحر . في أخر هذه الدراسة السريعة اطرح بعض الأمثلة للبحر الهلالي، يقول الشيخ راكان بن حثلين رحمه الله في سجنه في تركيا :

انا اخيل ياحمزة سنا نوض بارق

يجلى من الظلما حناديس سودها

الى أن يقول :

وان جرّ حربيٍ علينا جريرة

صبرنا عليها لين نقوى ردودها

صبرنا عليها لين نعطيه مثلها

برجفٍ تزلزل من مثاني رعودها

لاحظوا الصدر الذي يقول :

ان جر حربيٍ علينا جريرة .. هذا الصدر اقترب بل تطابق مع المسحوب لكنه ليس مسحوباً لأن البيت يوخذ على بعضه كاملاً. وبناءً عليه نقول : أن عجز البيت هلهلة أي جعله على البحر الهلالي .. ايضاً في مجال الحالة أو الصيغة الثانية من الهلالي التي تزيد على المسحوب بحرف واحد في أخر البيت – هذه الزيادة يدركها الشاعر المتمكن بالسليقة ولاتعتمد على حساب الحروف البتة لأن حروف المسحوب في بعض الأحيان تتجاوز عدد حروف الهلالي، الزيادة في الأيقاع فقط – في ذلك يقول الشاعر المعروف طلال السعيد :

فارقت من لاكان ودّي أفارقـه

عقب الصلاة وتوّها الشمس شارقه

الفجر يوم الناس تسعى لرزقها 

أنـا عيـوني بـازرق الدمـع غـارقه

بكى وأنا أبكي يوم وقّفت أودعـه

والكـل منّا يذرف دمــوع حـارقه

سـلّمت ويديـني بياديـه ترتجف

ويديه بيديني من الخـوف عارقـــه

وأقفا وأنا قفيت والصمت حيلـتي 

عز الكـلام ودمعـة الياس فارقــه

ومن نافلة القول أود أن أوضح بأن الهلالي الأساسي الذي اخترنا له مثال قصيدة الشيخ راكان ( انا اخيل ياحمزة ) تزيد على المسحوب بثلاثة حروف أو حرفين في بداية البيت وليس في أخرة – ولو أنه احيانا وفي حالات نادرة تكون الزيادة في البداية والنهاية – ، والنوع الواسط من الهلالي يزيد على المسحوب بحرف واحد فقط في أخره ( وهو الذي مثلنا عليه بأبيات الشاعر طلال السعيد ) والنوع الثالث يبادل بطريقة جميلة فيعطينا فسيفساء شعرية جميلة ( هذا النوع مثلنا عليه بأبيات المرحوم بريك الأسعدي ) والأمثلة كثيرة ، وعلى كل حال هذا البحر من غاص أو تأمل فيه عرف أنه – كغيرة من البحور والمحيطات المائية – يمّر بحالات مدٍ وجزر ، ومن وجهة نظر خاصة كونّتها من خلال إطلاعي على الكثير من تجارب الشعراء في هذا المجال في عصور متعددة، ولذلك اقول ؛

اذا كان معشر النحويين يقولون : أنه يحق للشاعر الفصيح مالا يحق لغيره .. فأنني اقول : أنه يحق للشاعر النبطي المتمكن في البحر الهلالي مالا يحق لغيره.

يحيى المحيريق