الهمس والجهر في قصيدة “صباح الحب” بقلم سفر آل قناص ملحمة نجران

الهمس والجهر في قصيدة “صباح الحب”

للشاعر مانع ابن جلاب (بدر الحزين)

 

صباح الحب لو كل البلابل خايفة و سكوت

من أجلك غرد العصفور بألحان الهوى العذبة

عشانك ورد و سياجك قلوب تحب حد الموت

تغنى بلبل ضلوعي وخالف بالنغم سربه

عصافير الغرام إن كان خوفها المطر بافوت

لأن البرق شوقي و الرعد في داخلي دربه

أمد القافية لأجلك نغم وأرسم غلاك بيوت

على خد السما لأكتب غلاك أشواق منكتبة

بكفين القمر وأنتي رسايل ياسمين الصوت

غزل نسرين يا نجران بالوجدان منسكبة

أشوفك تكبر الدنيا بعيني يا ثغر ياقوت

على ثغرك خيوط النور تحرق ظلمة الرهبة

وأجيك وكبرياء المجد يعطيني شموخي قوت

يرد الروح للتاريخ للأيام في ركبه

على خطوتك يا نجران تظهر بالزمان بيوت

وتشهق مملكة بلقيس بك والوقت يا قربه

بصوت اليعربي الشامخ دعيتي صوتي المكبوت

غرستي بانقطاع الصوت صوت وصرتي الرغبة

وغنيتك من ضلوعي قصايد بحرها من توت

قصيد إعجاز بالرمز المناضل يكشف الغربة

لأنك مجد ورجالك تحب حد الموت

تظلي يا منارة مجد بالتاريخ منتصبة

لنستوضح معالم هذه القصيدة، لا أبد أن ندرس الصوت في قافية كل شطر قبل الدخول في عالمها الصوتي والبلاغي.

فالقصيدة تشبه زفيرا عاليا ينكسر كمنحنى الموجة، فقد جعل الشاعر التاء حرف روي لصدر كل بيت، كما جعل الباء رويا للعجز، و التاء في صفته الصوتية صوت من أصوات الشدة أي ينقطع الصوت عند نطقه، كما أنه صوت مجهور لا يصاحبه نفس، لكنه يتنفس حين يتخلص من هاتين الصفتين حين يكون ساكنا؛ ليتصف حينها بالهمس، و ذلك ما سنقتفيه في ثنايا هذا العرض.

و الباء حرف شفوي يخرج من باطن الشفتين، شديد ومجهور، و لكي يتولد كاملا وجبت له القلقة عند السكون، لكن الشاعر خلق له الهاء حرفا للوصل، سواء أ كانت هذه الهاء تاء للتأنيث كما في: عذبة، منكتبة، منسكبة…، أو كانت ضميرا كما في: سربه، دربه، ركبه…

و ليس ذلك فحسب بل التزم الشاعر بحرف ردف و هو الواء قبل حرف الروي في صدر كل بيت، و حرف الردف يمثل المسار الصوتي المبين لوقع حرف الروي. فالواو حرف جوفي يبرز على هيئة زفير له دلالته الموسيقية والشعورية.

القصيدة تنساب بين (أوت) و (به) ممثلة موجتين صوتيتين :

طويلة شديدة وأخرى قصيرة شديدة.

الجدير ذكره أن كلا القافيتين مقيدة، للتدليل على حالة التصادم ووقع التفاعل. يستهل قصيدته بالجملة الاسمية “صباح الحب” لما في الجملة الاسمية من التأكيد و المباشرة، صباح الحب لمحبوبته و لو امتنعت كل البلابل “لو كل البلابل خايفة وسكوت”

صباح الحب، لماذا؟ لأن الغناء سجع لأجلك

“من أجلك غرد العصفور بألحان الهوى العذبة”

يستطرد معللا أيضا:

“عشانك ورد و سياجك قلوب تحب حد الموت”

رقيق هو التعبير بالورد، لكن سياجه سياج من نوع آخر “قلوب تحب حد الموت” و هنا أوغل الشاعر في وصف القلوب تمهيدا لبوح متصاعد، بوح سجي غارق بالبديع (بلبل ضلوعي) مستعيرا هذه الصورة الباذخة.

يتبعها بعطف يوضح الصورة أكثر (خالف بالنغم سربه).

يستمر الشاعر يهدينا رشقات بوحه واحدة تلو الأخرى:

“عصافير الغرام إن كان خوفها المطر” و هنا استعمل فعلا قل استعماله بصيغة المضارع “بافوت”، و إن استعمل(الفعل) بصيغة الماضي كما في “فاتك الشر” أو بصيغة الأمر مضعفا كما في “لا تفوت”، قد تكون لثقافة الشاعر دور في استعمال هذا الفعل بصورته الشاخصة هنا. يستطرد أيضا في تعليلات المحب الذي يجود بمضطرم عاطفته:

“لأن البرق شوقي و الرعد في داخلي دربه”

و هنا تعلو النبرة تمهيدا لذروة المنحنى:

“أمد القافية لأجلك نغم و أرسم غلاك بيوت” ساجعا بالميم (أرسم، نغم).

على خد السما لأكتب غلاك أشواق منكتبة. مستعملا اللام الموطئة للقسم في (لأكتب) وهو استعمال نادر في الشعر الشعبي. ثم يقفز الشاعر ليتدارك خطأ عروضيا لا يصدر من أمثاله؛ وهو التضمين أي تمام البيت الأول ببيت يليه. وهنا أتم الشاعر بيته كاملا، وكان هذه البيت تفسيرا:

“بكفين القمر و أنتي رسايل ياسمين الصوت

غزل نسرين يا نجران بالوجدان” منسكبة. ليسكب ثلاث استعارات بديعة: (كفين القمر)، (ياسمين الصوت)، (غزل نسرين) و إن كانت الأخيرة لا تضاهى، فالنسرين تلك الوردة البيضاء المشوبة باللون الوردي و ذات الرائحة التفاحية، إنه استعمال يجب التوقف عنده. وليس بعيدا عن الأشجان: نجران، وجدان.

يقترب ويخاطب مناديا:

أشوفك تكبر الدنيا بعيني يا ثغر ياقوت

على ثغرك خيوط النور تحرق ظلمة الرهبة (ثغر ياقوت)، (ثغرك) يؤكد الشاعر تمكنه من إدارة الخطاب العاطفي ببذخ لغوي…. و هنا يصل مبتغاه، مطلقا ذراعيه وعاطفته عشقا وعزة وتغنيا بمن كان سبب ذلك مستعيرا (خيوط النور) و (ظلمة الرهبة) :

“وأجيك وكبرياء المجد يعطيني شموخي قوت

يرد الروح للتاريخ للأيام في ركبه”

كان هذا البيت ذروة الذروة و نقطة اللاعودة، و كان له ما أراد.

يعود بعدها الشاعر ليتنفس الصعداء بعد هذه الرشقات اللاهثة فخرا و عشقا، و يقترب من الهمس المسموع:

“على خطوتك يا نجران تظهر بالزمان بيوت

و تشهق مملكة بلقيس بك والوقت يا قربه”

كانت تلك الحبيبة نجران، وكان الخطاب نحوها والصباح لها يعود للتصاعد في البيت التالي، مستعملا مفردة “اليعربي” للتدليل على عروبته وعلى مقدرته في إثراء المعجم اللغوي للقصيدة الشعبية:

“بصوت اليعربي الشامخ دعيتي صوتي المكبوت

غرستي بانقطاع الصوت صوت وصرتي الرغبة”

يعطف الجمل تواليا ماطرا الأسماع بفيض الإبداع اللغوي حقيقة ومجازا:

و غنيتك من ضلوعي قصايد بحرها من توت

قصيد إعجاز بالرمز المناضل يكشف الغربة.

يصل أخيرا ويوصلنا إلى تأكيد خاص كانت القصيدة تدور حوله، رسمه منذ بداية القصيدة باستهلاله بالجملة الاسمية:

” لأنك مجد ورجالك تحب حد الموت

تظلي يا منارة مجد بالتاريخ منتصبة”

مؤكدا بتكرار “مجد” مرتين، وذاكرا “نجران” مرتين.

لقد كانت القصيدة همسا وجهرا كما اخترت لها عنوانا ويبقى داخل كل شاعر ما لا يظهره، ويبقى داخل كل قصيدة من الرموز ما لا يستطيع حلحلته سوى الشاعر ذاته.

سفر آل قناص

ملحمة نجران