مانع ابن جلاب حين يحزن قراءة نقدية بقلم سفر آل قناص

لقد اختار مانع ابن جلاب لقبا تجلى في معظم قصائده (بدر الحزين) ،لكنه من الصعوبة بمكان أن يختزل مانع ابن جلاب في الحزن، فهو بلا شك أحد أقطاب القصيدة النجرانية الشعبية عبر عصورها المختلفة، و ربما ينتصب في عصره شاعرا يشار إليه بالبنان، و ذلك لأن مانعا أضاف للقصيدة النجرانية بل و الهمدانية ما نستطيع ذكره هنا بإيجاز:

* نقل القصيدة من كونها مؤشرا على التواصل إلى صلة غائرة في ذات كل مستمع.

* أدخل ابن جلاب الصورة و اللون بشكل جلي في القصيدة النجرانية،

* أخرج القصيدة النجرانية من محليتها لتلامس المحيط العربي المتذوق للشعر الشعبي.

* أسس ابن جلاب للزامل النثري، و أخرجه(الزامل) من كلاسيكيته المعهودة.

* سلك مانع ابن جلاب مسلكين متعارضين استطاع بدهشة أن يستثمرهما:

عموديا حين توغل في نجرانيته و في تغزله المجنون بها فحقق شهرة محلية لا تضاهى.

و أفقيا حين حلق منتشيا في محيطه العربي بعذوبة عاطفته و صورها المخملية. وذلك دأب العباقرة وهم يستثمرون النقائض، فأقوى ما يكونون حين يضعفون، و أضعف ما يكونون حين يقوون.

* تفرد مانع ابن جلاب في حزنه، ذلك أن حزنه الشاعري كان ممزوجا بعذوبة شاعرية فذة شذبت من تكاثف حزنه.

 و للاقتراب أكثر من شاعرية مانع ابن جلاب، إليكم قصيدة “الله كريم” و إضاءة على بعض جمالها:

 

تبقى الحيـاة بمرهـا حلـوة مـا دام الله كريـم

قم انفض غبار الحزن عـن خاطـرك لا يخنقـه

يخلق مع الضيقة فرج رب علـى خلقـه رحيـم

ويجيب من عقب المسا والليـل شمـس(ن) مشرقـة

يا صاحبي رغم العنا والضيق والجـرح الاليـم

يبقى الامل رغم الالم رغـم الجـروح المحرقـة

قيد القهر لا تاضعه بيـدك علـى قلبـك مقيـم

ارم القهر و ارم العنـا بـذر الرجـا لا تسحقـه

قم هات كفك في يدي نبدا مـن الصفـر القديـم

من ساعدك في ساعدي حزن المواجـع نشنقـه

لا خاننا بأمس الزمن واليـوم بالضيقـه زعيـم

بكره نسانيس الأمـل فيهـا الفـرج نستنشقـه

يا صاحبي من ذا الشجر خذ حكمة الصمت الحكيم

رغم الريـاح التطعنـه يبقـى بهامـة شاهقـة

عش دنيتك لا تنحني مهما غـدا وقـتك خصيـم

بإرادتك تحنـي القهـر بأمـواج عزمك..تغرقـه

لا بد ما ياتي مطر مـا دام بـه نسمـة وغيـم

لابد مـا ياتـي فجـر رغـم الليالـي الخانقـة

هيا نحـاول للأمـل نوصـل إذا نوصـل سليـم

ولا..فياكـم غيرنـا لفـت حـبـال المشنـقـة

 

في هذه القصيدة التي ألزم مانع نفسه بحرف الميم الساكنة في صدر كل بيت، والهاء الساكنة التي تشبه هاء السكت في عجز كل بيت، تشير الميم الساكنة إلى حالة الصمت و الثبات و اليقين و عمق الفعل أثره (كريم، رحيم، أليم..) ، كما تشير الهاء للوقف و القبض و الحدة(يخنقه، محرقه، تسحقه….)

يبدأ مانع المطلع بجملة تقريرية مبدوءة بفعل منحها الحركة و الديمومة، ثم إن هذا التقرير موجب اليقين بشرط لا يخلف (ما دام الله كريم).

(قم انفض غبار الحزن) استعمل الشاعر الأمر الموجب الذي يفضي إلى صالح المأمور، مستعملا مجازا مستحدثا (غبار الحزن) كناية عن الحزن العاصف والقاتم، ثم يعلل عن لم؟! (لا يخنقه).

يعود مانع في البيت التالي للتقرير مستعملا الطباق (ضيقة، فرج).

رب(ن) على خلقه رحيم، هنا يطرد في وصف الرحمة الإلهية. (و يجيب من عقب المسا و الليل) هنا جمع الشاعر بين المساء (ما بين الظهر و الغروب) و ما بين الليل (من الغروب إلى الشروق) و هو جمع نادر في الشعر عامة فصيحه و شعبيه، و قد يكون الشاعر أول من أورد هاتين المفردتين معا، ليؤشر إلى انه أراد ثلاثة أرباع اليوم،(شمس ن مشرقة) دعوة مشرقة للأمل في نهاية التقرير.

يقترب الشاعر من المخاطب متجاوزا الفواصل الوجدانية ليناديه (يا صاحبي) لما في الصحبة من قرابة و دفء، ليصل إلى حكمه الذي يريد (يبقى الأمل رغم الألم) لم يعرض الشاعر طباقا مبينا لحكمه فحسب، بل أضاف الجناس ليمنح حكمه الجمال و البهاء(الأمل، الألم)

(قيد القهر) استعار الشاعر القيد لتموضع القهر المقيم، مضيفا صورة جلية للقهر. و يكمل (ارم القهر و ارم العنا) بصورتين بديعتين(رمي القهر، رمي العنا) ليأخذنا بعد هذين الأمرين إلى دائرة ضوء من نوع آخر(بذر الرجا لا تسحقه)، تتمركز هذه الدائرة حول هذه الاستعارة الساحرة (بذر الرجا) كأن الشاعر يؤكد على جدارته في خلق الصور حتى داخل الجمل الطلبية.

يعود الشاعر بعاطفته الرقيقة نحو الطلب اللطيف (قم هات كفك في يدي) كف ويد، قل من استعملهما معا في التفصيل و التقسيم، لكن إلام هذه الطلب؟

(نبدأ من الصفر القديم) متى كان هناك صفر قديم؟ أثمة أصفار موصوفة بالحداثة و القدم! إنها مهارة السليقة الفذة لدى الشاعر، فمن غير الطبيعي أن يرسم ذو العاطفة صورة مثل هذه ما لم تكن المهارة فطرية، ففي العاطفة الجياشة تنزع الصنعة المتكلفة،

(من ساعدك في ساعدي حزن المواجع نشنقه) يقصد ساعدك الذي في ساعدي، وتخلص من الاسم الموصول ببراعة ورشاقة، مارا باستعارة أخرى في خضم العاطفة في قوله (حزن المواجع).

تجاوز الشاعر الموصول ليصل لمعناه (الزمن الخائن الأمس الذي يتزعم ضيقة اليوم) ليصل إلى ما رسمه من أمل (بكرة نسانيس) مستعملا كلمة طويلة المبني لتعطي دلالة على معنى أعمق (نسانيس)، من باب القاعدة اللغوية (زيادة المبنى زيادة في المعنى) فلم يكتف بنسناس المفرد، لكن لم؟

فيها الفرج نستنشقه، و هنا يعود الشاعر يمطر الاستعارات (استنشاق الفرج).

يلتفت الشاعر مناديا (يا صاحبي) مشيرا إلى الشجر و ما فيه من حكمة للصمت، ناثرا إبداعه ثانية مستعيرا الصمت للحكمة(حكمة الصمت)، حال هذا الموصوف(الشجر) يظل منتصبا مقاوما رغم الرياح التي تجابهه، في هذا الشطر تخلص الشاعر عروضيا من ثقل الحركة (الياء) في (اللي تطعنه) ليحيلها إلى مسند و مسند إليه بأناقة و لباقة (إلتطعنه)، يستمر الشاعر في هذا التدفق الأملي حتى تستوقنا هاتان الصورتان(تحني القهر، أمواج عزمك). وليس غريبا على الشاعر في هذه القصيدة أن يستحدث استعارتين بارعتين. ولك أن تتصور كيف تحني القهر، وتتخيل أمواج العزم!

يكمل الشاعر حكمه المبني على اليقين(لا بد ما يأتي مطر… لا بد ما ياتي فجر) بشرطيه المنطقيين: مطر بسبب الغيم، و فجر لكل ليل.

يختم الشاعر بكم هائل من اليقين يوازيه كم مماثل من الإيمان بالقدر(هيا نحاول للأمل، و لا فيا كم لفت حبال المشنقة)

كما بدأ الشاعر قصيدته بحقيقة الأمل ومشروعية، ختم بحقيقة النهاية وقدر المصير فكأنه يقول: “نحاول للأمل، فإن لم فلا حيلة أمام المصير

 

سفر آل قناص

ملحمة نجران