ولكنّه كلام!
يعرض ابن سلّام الجُمحيّ في طبقات فحول الشّعراء بيتين، أوّلهما لامرئ القيس وثانيهما للنّابغة الذّبيانيّ.
امرؤ القيس:
فيالكَ مِنْ ليلٍ كأنَّ نجومَهُ
بأمراس كتّانٍ إلى صُمِّ جَنْدَلِ
النّابغة:
فإنّكَ كالليلِ الذي هو مُدركي
وإنْ خِلْتُ أنّ المُنتأى عنكَ واسعُ
يَخْلُص ابن سلّام بالقول: «فَزَعَم بعض الأشياخ أنّ بيت النّابغة أحكَمُهما». لا نعلم ما وجه التّحكيم والمقارنة والبتّ، إذ لا نجد مشتركًا بينهما إلا استخدام مجاز الليل. لا حلّ هنا إلا تخميننا بأنّ ابن سلّام قد وهم، ونقل بيتًا آخر لا يرتبط بسياق المقارنة المنشودة. وهذا ما سنراه بعد قليل. يُسعفنا الشيخ محمود شاكر في شرحه لكتاب ابن سلّام، ويؤكّد تخميننا حين لا يجد وجهًا للتّخيير والموازنة، «فامرؤ القيس أراد ما رأيت من بطء الليل وثقله عليه. والنابغة أراد شيئًا آخر يخالفه كلّ المخالفة حين ذكر الليل». يواصل شاكر كلامه في سياق مختلف بعض الشيء حين ينتقد طريقة قراءة الشرّاح للشّعر، فيقول: «وللشرّاح كلام كثير، ولكنّه كلام! قال بعضهم: لا معنى لتخصيص الليل، لأنّ النهار يدركه كما يدركه الليل. … ثم تراجعوا القول بينهم بما لا غَناء فيه». ومن ثمّ يشرح شاكر بيت النابغة بعد أن يضيف إليه بيتين شرحًا وافيًا شافيًا. غير أنّ الشيخ شاكر، على علوّ شأنه ودقّة منهجه النقديّ، يغفل عن تصحيح وهم ابن سلّام، ويواصل شرحه في الكتاب من دون أن يفصّل في كلامه عن النّابغة. ولكنّ هذا النّقص لا يمنعنا من تحليل كلام شاكر، إذ نجده يشير إلى نقطتين مهمتين: الأولى، خطأ ابن سلّام؛ والثانية، خطأ الشرّاح في تذوّق الشّعر. فلننطلق من هاتين النقطتين كي نحاول إتمام كلام شاكر.
أين أخطأ ابن سلّام؟ وما البيتان اللذان يصحّحان تلك الموازنة؟
يُدرِج لنا الحصريّ في زهر الآداب فصلًا عن بعض الشعراء الذين كتبوا أبياتًا في الليل الذي يطول سهادُه وأرقُه حين تكثر هموم القلب. (وقد انتحل هذا الفصلَ كتّابٌ كثيرون لاحقون في مقالات، ولكن ما علينا!) الثيمة قديمة قِدم الشّعر، وإنْ بدا في حالة الشعر العربيّ أنّ أول من تطرّق إليها امرؤ القيس في معلّقته والنّابغة في إحدى اعتذاريّاته. ربما تطرّق إليها شاعر أقدم منهما ولكنّنا نتحدّث دومًا عن القصائد والأبيات التي وصلت إلينا. وبذا ارتبطت فكرة الليل الطويل مع هذين الشاعرين، يؤكّد لنا الحصريّ هذه النقطة حين يروي حكاية رهانٍ بين الوليد بن عبد الملك وبين مسلمة بن عبد الملك فيمَنْ صاحب الأبيات الأجمل في وصف الليل الطويل، ليل الهموم. هنا نجد التّصحيح الذي ننشده حيال خطأ ابن سلّام، ونجد الموازنة التي كنّا، والشّيخ شاكر، نبحث عنها. مالَ الوليد في بداية الأمر إلى النابغة وافتتاحيّة اعتذاريّته:
كِليني لِهَمٍّ يا أميمة ناصبِ
وليلٍ أُقاسيه بطيءِ الكواكبِ
تطاولَ حتّى قلتُ ليس بِمُنْقَضٍ
وليس الذي يرعى النّجومَ بآيبِ
وصَدْرٍ أراحَ الليلُ عازِبَ هَمِّهِ
تضاعفَ فيه الحزنُ من كلِّ جانبِ
ومالَ مسلمة إلى أبيات امرئ القيس:
وليلٍ كَمَوْجِ البحرِ أرخى سُدُولَهُ
عليَّ بأنواعِ الهمومِ ليبتلي
فقلتُ له لمّا تمطّى بِجَوْزِهِ
وأَرْدَفَ أعجازًا وناءَ بِكَلْكَلِ
ألا أيّها الليلُ الطويلُ ألا انجلي
بصُبحٍ وما الإصباحُ منكَ بأمثلِ
فيالكَ من ليلٍ كأنَّ نجومَهُ
بِكُلِّ مُغارِ الفتلِ شُدَّتْ بِيَذْبُلِ
احتكما إلى الإمام الشّعبيّ الذي لم يكن في حاجةٍ إلى إبداء رأيه، إذ تمايلَ الوليد طربًا على أبيات امرئ القيس فحُلّت المسألة وانتصر مسلمة وامرؤ القيس. وفي واقع الحال نحن أيضًا لسنا في حاجةٍ إلى طرب الوليد الذي اشتُهر بلحنه في العربيّة كي نحسم أمرنا. أبيات امرؤ القيس أجمل، وليله هنا أطول وأقسى إذ شُدَّت نجومه بحبلٍ قويٍّ لا فكاك منه فثبتت ولم تتزحزح، فيما كانت نجوم ليل النابغة بطيئة لا ثابتة، وسينقضي ليله، وينتهي همّه أسرع. أو هذا ما نظنّه!
لا غَناء فيه!
النقطة الثانية، والأهم، في كلام شاكر هي ما تعنينا هنا. أين أخطأ الشرّاح في فهم الشّعر العربيّ؟ لو استعرضنا الشّروحات العربيّة القديمة للشّعر سنجد منهجًا نقديًا راسخًا شبه موحَّد لقراءة الشعر: تفسير ما استغلق من مفردات، يليها إعراب للمفردات، يليها – في حالات قليلة – التوسّع أكثر ليقارنوا بيتًا ببيت. شرح لغويّ وشرح بلاغيّ، ولكن ما من شرح جماليّ في الغالب الأعم. الأمر الآخر هو إصرار الأقدمين على التّعامل مع القصيدة العموديّة بوصفها كتلةً فوضويّةً مكوَّنةً من وحدات مستقلّة في كلّ بيت، وبذا لا نجد ربط قصيدةٍ بأخرى أو مقارنة عالمٍ شعريٍّ كاملٍ بعالم آخر. صحيح أنّنا نجد بعض الأحكام المبتورة من قبيل أنّ فلانًا أفضل مَنْ وصف الإبل، وأنّ فلانًا خير مَنْ وقف على الأطلال، وأنّ فلانةً أعظم من قال المراثي، ولكن لا نجد إسهابًا أو توضيحًا واضحًا حيال أفضليّة هذا الشاعر أو ذاك. وقد توارثنا هذا المنهج النقديّ بحيث بات الشّعر محض أبيات متناثرة لا تهمّنا إلا من ناحية «عاطفة الشّاعر» أو «غرض القصيدة» وغيرها من الترّهات المدرسيّة التي لا تمنحنا مفاتيح قراءة صحيحة للشّعر. أما الكارثة الكبرى فهي الصورة الزّائفة التي قُدِّمت بها القصيدة الجاهليّة إلينا: قصيدة جامدة بتقسيمات ثابتة تبدأ بوقوف على الأطلال أو بافتتاحيّة غزليّة، ومن ثمّ عدة أبيات وصفيّة، يليها مدح أو ذم، وربّما يتخلّلها بعض الحكمة، قبل أن يصل الشاعر إلى بغيته الأساسيّة من كلّ تلك المقدّمات «النافلة»، ويختتم قصيدته اعتباطيًا. ربّما كانت هذه الصورة لصيقةً بقصائد بعينها، ولكنّ تعميم الصورة على الشّعر الجاهليّ كلّه سيجعلنا نتساءل: لمَ نضيع وقتنا إذن في قراءة هذه السفاسف عن الإبل والأطلال والرمال؟ وكيف يستقيم هذا الحُكم مع إصرار معظم النقّاد، قدماء ومحدثين، على أنّ الشعر الجاهليّ درّةُ الشّعر العربيّ، بل على أنّ الشّعر الجاهليّ – بمعنى من المعاني – هو الشّعر العربيّ وكلّ ما بعده تابعٌ له ونابعٌ منه؟
في كلامي قدرٌ من المبالغة حتمًا، ولكنّ القراءات النقديّة المتلاحقة للشعر لم تغيّر كثيرًا في تلك الصورة الموحَّدة. لن يفيدنا المحدثون إفادةً كبيرةً، ولذا لا بدّ من عودةٍ إلى الأقدمين، وإلى عباراتهم المتناثرة، كي نحاول تجميعها والخروج بتفسير مُرضٍ. لا بدّ من قراءة دقيقة لتلك الشّذرات لعلّنا نفهم طبيعتها وطبيعة قائليها.
امرؤ القيس: فيالكَ مِنْ ليلٍ كأنَّ نجومَهُ بأمراس كتّانٍ إلى صُمِّ جَنْدَلِ النّابغة: فإنّكَ كالليلِ الذي هو مُدركي وإنْ خِلْتُ أنّ المُنتأى عنكَ واسعُ
تويتر قبل تويتر
تُنسَب للأصمعيّ – من بين رواة ونقّاد عديدين – عبارة شهيرة تتمحور حول أشعر الشعراء: «زهير إذا رَغِب، والنابغة إذا رَهِب، والأعشى إذا طَرِب، وعنترة إذا كَلِب»، ونجد تنويعًا آخر لها أكثر منطقًا يُسقِط عنترة ويضيف امرأ القيس: «امرؤ القيس إذا رَكِب، وزهير إذا رغب، والنابغة إذا رهب، والأعشى إذا شرب». تصلح العبارة تغريدة تويتريّة جميلة وصاعقة وإشكاليّة. وهذه الصياغة التويتريّة ليست غريبةً عن عالم رواية الشّعر القديم ونقّاده، بل لعلّها الصيغة الأكثر ذيوعًا: عبارات قصيرة ثاقبة، توحي ولا تُصرِّح. لنا أن نفترض أنّ هذه الصيغة مرتبطةٌ بسياق رواية الشّعر وتعليمه وتعلّمه قديمًا. حلقة طلّاب تحيط بالأستاذ الذي يلقي درسه بعبارات موجزة، قبل أن يتوسّع أكثر فأكثر في الشرح. وصلت إلينا بعض تلك الدروس في الجنس النقديّ الذي اشتُهر باسم «الأمالي»، وفي كتب أخرى تُعنى بالشّواهد الشعريّة التي تبدأ ببيت ولا تنتهي بشرحٍ تاريخيّ اجتماعيّ ثقافيّ لصاحب هذا البيت ولكلّ مَنْ عارضه أو قلّده أو تلمذ عليه أو انفصل عنه. ولكن فلنبق عند الأصمعيّ الذي ربّما كان أشهر وأعظم من أوجزوا ولم يفصّلوا. نجد هذه السمة طاغيةً في الأصمعيّات، وفي الدواوين التي صنعها (تستحق هذه النقطة وقفةً مفصّلةً في مناسبة أخرى). ولكنّ معظم أعمال الأصمعيّ الغزيرة ضاع، ولم يتبقّ لدينا إلا عبارات موجزة مبثوثة متناثرة في المصادر، ولم يصل إلينا كتاب يضمّ آراءه النقديّة كلّها باستثناء كتيّب صغير هو فحولة الشعراء الذي يواصل فيه الأصمعي رشق عباراته الحاسمة، الثاقبة في معظمها. يُفرِد الأصمعي لواء الشعر الجاهلي لشاعرين بعينهما: امرؤ القيس والنابغة الذبيانيّ، يميل للأول أحيانًا وللثاني أحيانًا، من دون أن يحسم. حين يقول الأصمعيّ إنّ أحد هذين الشاعرين أشعر الجاهليّين، فهذا يعني ضمنيًا أنّه أشعر العرب طرًا، لأنّ الأصمعيّ لا يرى فرصة للمحدثين في هزيمة أسلافهم الأقدمين. لم يعش الأصمعيّ ليرى شاعرًا أعظم من الأقدمين، ووضع بشار بن برد خاتمًا للشعراء. كان سيضم المتنبي على الأرجح، وربما المعريّ، ولكنّ إفراده للنابغة ولامرئ القيس لن يتزحزح كثيرًا حتى لو عاش ألف عام. غير أنّ هذا الإفراد لا يعني التنزيه لأنّ سهام الأصمعي الدقيقة تطال جميع الشعراء، بمن فيهم شاعراه.
عابَ الأصمعي بيت النابغة:
فإنّكَ كالليلِ الذي هو مُدْركي
وإنْ خِلْتُ أنّ المُنتأى عنكَ واسعُ
إذ ينقل لنا الشريشيّ في شرحه لمقامات الحريريّ أنّ الأصمعيّ خطّأَ يحيى البرمكيّ حين أشار يحيى إلى أنّ النابغة أحسن الناس تشبيهًا في بيته أعلاه، حيث يقول الأصمعيّ: «وأما تشبيه الإدراك بالليل، فقد تساوى الليل والنّهار في ما يدركانه، وإنّما كان سبيلُه أن يأتي بما ليس له قسيم، حتّى يأتي بمعنى ينفرد به». لعلّ الأصمعيّ قسا على النابغة بسبب بغضه للبرامكة، إذ تبدو سقطة الأصمعيّ هنا عجيبة. كيف لنا تقبُّل حكمه هذا وهو يدرك بلا شكّ أنّ الليل ليس كالنّهار وإنْ تساويا، وأنّ ليل النابغة (وهذا أهم) ليس كأيّ ليل آخر. كان الأصمعيّ أحد من صنعوا ديوانًا للنابغة، أي إنّه تعمَّقَ في قراءة شعر النابغة كلّه، ويعلم – أكثر منّا – أنّ شعره لا يُقرأ بظاهره. تكفينا صناعته للديوان حتّى لو لم تصحّ نسبة عبارة «والنابغة إذا رهب» له، وأنا ممّن يشكّون في صحة نسبتها إليه؛ فتلك العبارة الموجزة تستحق قراءةً عميقةً بغية فهم قسطِ كبيرٍ من عالم النابغة.
إذا رهب
يدلّ المعنى الحرفيّ البسيط لعبارة «إذا رهب» على الخوف والفزع؛ أي أنّ النابغة يبلغ أقصى شعريّته حين يخاف. قرأ النقّاد هذه العبارة بمعناها الظاهريّ فقط من دون تحليل، ولذا أُسيء فهم النابغة في ناحيتين: أولاهما: أنّه أحد أوائل من تكسّبوا بالشّعر، أي مدحوا الأمراء مقابل أعطيات ماليّة؛ وثانيتهما، أنّه أحد مَنْ يُسمَّون «عبيد الشِّعر»، إذ هو – مثل زهير بن أبي سُلمى – يُعنى بتدوين قصيدته وكتابتها والسَّهر عليها وتنقيحها طويلًا. بوسعنا تبرير الناحية الثانية جماليًا، بمعنى أنّ النابغة سبق عصره وتمرَّد عليه من ناحية حصر الشِّعر في ارتجاله وعفويّته. ويمكن لنا الاستدلال من المعنى المُهين للعبارة بأنّ العرب لا يميلون إلى التّنقيح بل يفضّلون الشِّعر على سجيّته، ويرون – مخطئين كما توضَّح لنا لاحقًا – أنّ الشاعر لا يكون شاعرًا إلا حين يُبرهن على قدرته الارتجاليّة، ولذا قلّلوا من شأن النابغة من دون إحكام نظر في النّتيجة الأفضل التي صار عليها الشِّعر بعيدًا من «عفويّته». ولكن بمعزل عن الناحية الجماليّة، ترتبط هذه الناحية الثانية بالناحية الأولى ارتباطًا وثيقًا. ما كان النابغة يرى قصيدته نصًا جماليًا وحسب، بل كان يوظِّفها سياسيًا، ومن هذا المنطلق كان يُعمِل النّظر الدّقيق في القصيدة كي يكون لكلّ مفردة موقعها الصحيح المضبوط. ومن هذا السّياق تبرز أهميّة الناحية الأولى أيضًا. صحيح أنّ النابغة مدح الأمراء، بل امتدح المناذرة والغساسنة تباعًا وهم ألدّ الأعداء، ولكن ينبغي لنا قراءة هذا «التكسُّب» ضمن سياق ثقافيّ أكبر من حصر النابغة في موقع الانتهازيّ. لم يكن تكسُّب النابغة تكسّبًا شخصيًا بقدر ما كان تكسُّبًا عموميًا؛ فالنابغة شاعر قبيلته ولسان حالها ومستشارها الذي يقع على عاتقه إحكام العلاقة بين قبيلته الصغيرة وبين أكبر قوّتين عربيّتين مسيطرتين آنذاك. بل إنّ تقلّباته «التكسّبيّة» مرتبطةٌ أيضًا بتقلّبات الظروف والسياقات السياسيّة من ناحية تذبذب الولاءات وتعاقب الأمراء.
بشيءٍ من التّبسيط لنا أن نرى حياة النابغة مقسومةً إلى قسمين غير متماثلين: نهار قصير وليل طويل. يتّصل النّهار بالإلهام وبالكتابة وبالتكسُّب لو شئتم، أما الليل فيتّصل بالأرق، أرق مديد لا شفاء منه، أرق يخيّم على النابغة وهو يقلّب ذهنه في كيفيّة إنقاذ نفسه وإنقاذ قبيلته. وكما أسلفتُ أعلاه، ليس النابغة أول مَنْ تحدّث عن تلازم الهمّ بالليل وبالأرق، فالثيمة قديمة جدًا. لو أخذنا مثالين شهيرين يتداخلان مع موضوعنا هنا من مسرحيّات شيكسپير سنتذكّر أرق هنري الرابع وأرق مكبث. يُناشد هنري الرابع «النوم العذب» الذي هجره بفعل غرق هنري في صراعات وحروب ومؤامرات لا تُتيح له الهناء والنوم. أما أرق مكبث فأرق الذَّنْب حين يتخيّل مكبث صوتًا ينادي: «لا نوم بعد الآن!» بعد أن أوغل مكبث في جرائمه المتلاحقة. ولكنّ أرق النابغة مختلف، فهو – أولًا – أرق الشاعر، وهو – ثانيًا – أرق التّابع لا أرق الملك. وعلى ما يبدو فإنّ ملوك العرب لا ينتابهم الأرق بل ينامون نومًا هانئًا! ما يهمّنا هنا هو التأكيد على أهميّة «الليل» بوصفه مفتاحًا شديد الأهميّة يُتيح لنا قراءة شعر النّابغة قراءةً صحيحة. «إذا رهب» تعني تداخل إلهام الشاعر بمصيره، وتداخل حياته الشخصيّة بحياته العموميّة، وتداخل الليل الطويل بالنّهار العابر: ليل يُعرِّف شعر النابغة كلّه بمعنى من المعاني، ويفرض علينا بالضرورة قراءته في قصائده كلّها لا أنْ نكتفي ببيتٍ ينجح أو يخفق في نيل رضا هذا الناقد أو ذاك. لو عدنا إلى فصل «الشعراء والليل» عند الحصريّ سنجد أبياتًا عديدة أجمل من بيت النابغة، ولكنّ تذوّق شعر النابغة يستلزم قراءةً مقارنة، نقارن فيها النابغة بالنابغة.
همًّا مُستَكِنًّا وظاهرا
يَرِدُ مجاز الليل في أربعة مواضع من ديوان النابغة (أحيل هنا على النّشرة التي حقّقها محمد أبو الفضل إبراهيم): في القصيدة الثانية، والثالثة، والسابعة، والثامنة. ونجد فيها كلّها تلازُم الليل بالهموم، وتلازُم الهموم بالأرق، وتلازُم الأرق بأقصى درجات الشاعريّة لدى النابغة. ونلاحظ فيها أيضًا أنّها اعتذاريّات بمجملها، وإنْ اختلف الملك الذي يعتذر له النابغة؛ إذ يحظى النعمان بثلاث اعتذاريّات، فيما ينال عمرو بن الحارث اعتذاريّة واحدة. وتتناسب هذه الحصص مع ميول النابغة الفعليّة، إذ هو ميّال إلى المناذرة أكثر من الغساسنة، وهو لم ينقطع عن المنذر إلا فترة قصيرة. بل إنّ حصّة الشاعريّة تتناسب أيضًا مع ميل النابغة إلى المنذر. لا أنكر أنّ اعتذاريّته الشهيرة لعمرو بن الحارث تبدأ بأجمل افتتاحيّة عند النابغة:
كِليني لِهَمٍّ يا أميمة ناصبِ
وليلٍ أقاسيه بطيء الكواكبِ
حيث يُهمل النابغة الأطلال الخارجيّة المعتادة التي يُدمنها معظم شعراء الجاهليّة، ليقف على أطلال أخرى تُحرِّض ألمًا أشدَّ: أطلاله هو التي لا تخص أحدًا سواه، ولا يريد أن يُشرِك أحدًا فيها. أطلالُ حاضرٍ ومستقبلٍ يرتبطان بالهم والأرق، لا أطلال ماضٍ ذهب أهله وذهبت همومهم. بيد أنّ اعتذاريّاته للنعمان أبهى وأجمل بما لا يُقاس. نجد في هذه الاعتذاريّات صور النّابغة التي أهّلته ليُمسي اسمه مرتبطًا بالأرق لا في الشّعر وحسب، بل بالأرق كلّه، إذ باتت العرب تقول: «ليلةٌ نابغيّة». في ليالي النّابغة نجد أجمل مجازات الأرق والهموم:
كتمتك ليلًا بالجموحين ساهرًا
وهمَّيْن: همًّا مُستكنًّا وظاهرا
أحاديث نفسٍ تشتكي ما يريبها
وَوِرْدَ همومٍ لم يجدن مصادرا
حيث يواصل النابغة دمج الأزمنة التي تُمسي كلّها حاضرًا سرمديًا يبدأ بالهم وينتهي بالأرق، يبدأ جوّانيًا وينتهي خارجيًا حيث وطأة الليل يتضاعف ظلامها، يبدأ بهمٍّ ظاهريٍّ واضح وينتهي بهمٍّ آخر أقسى، همٍّ كامنٍ خفيٍّ يُلوّعنا لندرك مدى تهافت أحكامنا الأخلاقيّة التي نرمي بها جزافًا بعد 1500 عام، نرمي بها شاعرًا عرَّف باعتذاريّاته معنى أن تكون القصيدة لك وحدك، وأن تكون قصيدة لقبيلة، وأن تكون قصيدة لكلِّ مَنْ تقلَّبَ في أرق الرعب من أن يُسحَق هو وأهله بيد سُلطةٍ لا ترحم.
ليل النّابغة الذي غفل الأصمعيّ عن معناه هو ذاته الليل الذي منحنا أجمل تشبيهين في كلِّ ما قرأتُه من شعر عن معنى السّهاد الذي يكاد يصيبنا بالجنون حيث تصرخ مواضع تقلُّبنا في أسرّتنا لتشهد على ما قاسيناه، كما تصرخ مواضع سجود المسلمين لتشهد على صدق صلاتهم وتكون شفيعًا لهم. الأرق صلاة أيضًا ولكن لإله غاب ولم يعد؛ مواضع التقلُّب تشهد كمواضع السّجود ولكنّها ستشهد لأناس في غير حاجة إلى الشّهادة لأنّهم يعيشون التقلُب ذاته، والأرق ذاته، ولن تكون تلك المواضع شفيعًا لأنّ الأرق لا يستجلب إلا أرقًا أشد. تتطابق بدايتا بيتَيْ الأرق في قصيدتين مختلفتين، ويتطابق البيتان أيضًا في كونهما موجَّهين إلى النّعمان (وتستحق علاقة النعمان بالنابغة وقفة مستقلة سنفهم منها الكثير في ما يخص علاقة الشاعر بالسُّلطة وعلاقة المادح والممدوح). يبدأ البيتان بعبارة واحدة: «فبِتُّ كأنّي»، يليهما تشبيه صاعق لم يستلهمه النابغة من شاعر آخر على علمنا، في محاولة جريئة لإدخال الشعر إلى حقلٍ بِكْرٍ في الشعر الجاهليّ: أن يكون الشّعر مرآة لسيكولوجيا الأرق، وأن تنأى القصيدة عن التّشبيهات الماديّة وتقترب أكثر من فلسفةٍ تجمع الجسد بالروح بحيث يتلقّى الجسد الجراح ولكنّ الاستجابة ستكون ألمًا داخليًا ينهش الروح قبل الجسد.
فبِتُّ كأنّ العائدات فرشنني
هراسًا، به يُعلى فراشي ويُقْشَبُ
* * * *
فبتُّ كأنّي ساورتني ضئيلةٌ
من الرُّقشِ في أنيابها السُّمُّ ناقِعُ
أرق النّابغة فراشٌ محشوٌّ بالشوك، كما روحه محشوّةٌ بالهمّ. يتضاعف الهمّ كلّما تقلَّبَ الجسد وتوجَّع بشوكٍ حرفيٍّ ومجازيّ. وأرقه سمُّ أفعى لا تملأ العين ولكنّها تنخر في الجسد إلى أن يلتهب بالحمّى فيتضاعف الألم والأرق. وكأنّ النابغة يدرك أنّ حياته كلّها منذورةٌ للأرق، وأنّ شعره منذورٌ لغيره. بل نكاد نظنُّ أنّ ليل النابغة واحدٌ بملك أو بلا ملك، بقبيلة أو بلا قبيلة، لأنّ الليل بات يسم حياته كلّها. لن نثقل على النابغة بأحكامنا لأنّه – هو قبل غيره – يدرك مأزقه. سيصبح قِبْلةً للشعراء في عكاظ ولكنّه لا ينسى أنّ تاريخ الأدب سيذكره بكونه المدّاح المرتزَق، عبد الملوك وعبد الشّعر. لا يمكن لأيّ قارئٍ متمعّن لقصائد النّابغة ألّا يلتقط عذاب الضمير الذي ينهش النابغة فيزيد أرقه أرقًا. ولعل مأساته مضاعفة لأنّه لم يدرك السر الذي أدركه المتنبّي في أن تكون أكبر من ممدوحك، وفي أن تدسّ نرجسيّتك في القصائد التي يظنّ الملوك أنّها قصائدهم.
فإنَّك كالليل الذي هو مُدركي
وإنْ خِلْتُ أنّ المُنتأى عنكَ واسعُ
يَرِدُ عجز هذا البيت بروايتين: «واسع» وهي الصيغة الأشهر؛ أما الصيغة الأقل شهرةً فهي الصيغة الأشدّ إيلامًا: «وازعُ». فالنابغة يدرك أنّ النأي عن الملوك أفضل له، ولكنّ قَدَره ليس له وحده، بل هو قَدَر قبيلة كاملة تخشى الهلاك، ولذا فهو يدنو وينأى، وينأى ويدنو، مع أنّه يدرك تمام الإدراك أنّ الفراشة ستحترق مهما طالت رقصتها حول النار. الأمل الوحيد لتلك الفراشة هي ألا يكون احتراقها عبثًا؛ ألّا نكتفي بالصورة الظاهريّة، بل أن نتماهى مع تلك الفراشة لنحاول تخيُّل أرقها الجنونيّ الذي جعل نار الاحتراق أرحم من نار التذبذب بين أن تكون لنفسك وأن تكون لغيرك. منحنا بديع الزمان الهمذانيّ أدقّ توصيف للنابغة في المقامة الجرجانيّة (القريضيّة): «يَنْسِب إذا عشق، ويثلب إذا حنق، ويمدح إذا رغب، ويعتذر إذا رهب؛ فلا يرمي إلا صائبًا». التحفُّظ الموجِعُ الوحيد هنا هو أنّ النابغة مدح من دون أن يرغب، وليته رغب حقًا!
……………..