شاعر (يام)!
مامن شك أن الشعر هو(ديوان العرب)الذي خلّد بطولاتهم وأمجادهم وسجل تاريخهم ومآثرهم،كما أن الشاعر كان في العصور الماضية هو لسان حال قبيلته الذي ينافح عنها ويوثق مفاخرها، ويخيف اعداءها، ويمكن من خلال شعره أن يحط من شأن قبيلة إلى الأبد، كما يمكنه ايضاً في ذات الوقت أن يرفع من شأنه قبيلته ليطبق ذكرها الآفاق، واقصد هنا فحول شعراء العرب ماضياً وحاضراً.
فهذا الشاعر جرير يهجو الشاعر عبيد بن حصين الراعي ببيت شعري يقول:
“فغض الطرف إنك من نمير
فلا كعباً بلغت ولا كلابا”
لم تقم بعده لقبيلة نمير قائمة مع انها كما قيل في بعض المصادر التاريخية كانت إحدى جمرات العرب.
وفِي المقابل هاهو ذا الحطيئة يعيد الاعتبار ل(بني انف الناقة) بعد أن استهزأ بهم العرب طويلاً واطلقوا عليهم هذا اللقب لأن احد ابناءهم عاد يوماً لأمه وهو يجر أنف ناقة بعد ذبحها واقتسامها.
مدحهم الحطيئة بقوله:
قومٌ هم الأنفُ والأذناب غيرهمُ
ومنْ يسوِّي بأنف الناقةِ الذنبا
فانقلب استهزاء العرب بهم إلى فخر واعتزاز الى الدرجة التي جعلتهم يفتخرون بلقب (بنو انف الناقة) بعد أن كان وبالاً عليهم.
نقل عن ابي بكر الخوارزمي كلاماً وافيًا شاملاً عن الشعراء حيث قال:”ما ظنُك بقومٍ الاقتصاد محمودٌ الاّ منهم
والكذب مذمومٌ إلاّ فيهم
اذا ذّموا ثلبوا
واذا مدحوا سلبوا
واذا رضوا رفعوا الوضيع
واذا غضبوا وضعوا الرفيع
واذا افتروا على أنفسهم لم يلزمهم حدّ
ولم تمتد اليهم يد
وشهادتهم مقبولة وإنْ لم ينطق بها سجل
ولم يشهد عليها عدل
سرقتهم مغفورة!!
وانْ باعوا المغشوش لم يُردّ عليهم!!
وإنْ صادروا الصديق لم يتوحش منهم
ما ظنك بقومٍ اسمهم ناطق بالفضل
واسم صناعتهم مُشتَقٌ من العقل
هم امراء الكلام يقصرون طويله
ويقصرون مديده ويخففون ثقيلة”.
شاعر(يام) لقب التصق بذاكرة الناس ومجتمع الشعر والشعراء ومتذوقي الشعر في وطننا المملكة العربية السعودية وعلى وجه الخصوص أهالي منطقة نجران وقبائل يام وهمدان ومكرم.
وعندما يذكر(ابن بلال) أو (شاعر يام) نتذكر الجزالة والفحولة الشعرية التي قل نظيرها، نتذكر المفردات الراقية الفريدة والصور الشعرية البديعة، نتذكر حياة البادية ونمط عيشها، وتواضع اَهلها وفروسيتهم وشجاعتهم وكرمهم. نتذكر تلك المحاورة الشهيرة التي جرت مع الشاعر الكبير خلف بن هذال العتيبي وكيف أبان شاعر (يام) آنذاك عن سرعة بديهة وذكاء وبراعة وإلمام بالتاريخ والأحداث ثم كيف طوّع تلك المعرفة لخدمة الأغراض الشعرية.
نتذكر تلك القصيدة الخالدة/المعلقة ل(عطايا الله/الإبل) التي تضمنت وصفاً دقيقاً بارعاً لا يتقنه إلا شاعر فطحل كعلي بن بلال…يقول في مقطع شعري مذهل:
“أغير واطمر وان حذفت لها الخطام
تاقف وقوف العسكري حسب النظام
لو من بعيد ” اخ .. ابركي ” تبرك شمام
مثل الرهينة في طلب رهاَنها
خلود اسَدْ وعْيونها مثل الخلاْص
وكنْها ليا قامت على كهرب وماص
وان دبّرَت ما عاد يلحقها الرصاص
وان لمسها العرقوب جنّ جنانها
ان اربعت تقول زاروقٍ سريع
على طمان الموج والموج الرفيع
إلا انها فيها من الذيب الجويع
خوّه وباعه وحْرِكةْ بِيعانها
أصيل ومعدّي زمان معْ زمان
بشْدادها مسْ الحقبْ هو والبطان
وَعْذارها اللي من ورا مقطع لـ..أذان
واختم صريمتها تحتْ لحيانها”.
الكثير يمكن أن يقال عن (شاعر يام) الذي رحل عن دنيانا رحمه الله رحمة واسعة وموتانا جميعاً،ولكن في رأيي أن أكثر ما ميزه – عدا شاعريته الفذه – ووضعه في هذه المكانة الشعرية المستحقة له في قلوب كثيرين وبخاصة من قبيلته (يام) وأهالي نجران أنه رجل صادق في حميته،تلك الحمية الغير مفتعلة التي اتكأت على تاريخ مجيد لايضاهى لقبيلة (يام) العزيزة ويمكن ملاحظة ذلك في الكثير من أشعاره وفي العديد من مواقفه.
هنا مقطع بديع من قصيدة شهيرة لعلي بن بلال رحمه الله يقطر ألماً وتجربة ويقدم صورة عن كيفية انقلاب الأحوال وتقلبات الدهور…يقول:”
تجزعت من دنيا عسى الله يكافيها
ضحوك عواقب ضحكها يمرض الصاحي
جياعٍ ذيابتها شباعٍ حصانيها
تعز الردي وتذل كساب الامداحي
ولا اقصد شبعة عزيزٍ يزكيها
انا اقصد بها ناس عنيين وشحاحي
تميح الين انك من الجم تسقيها
وتطوي عشاها وانت في البير مياحي
وغناة محروم تلحق اللوم راعيها
لها الوارثين وهو لجذاب الارواحي
انا اشوف ناسٍ زود الاموال يطغيها
وهم ماخذوها يوم الانياب كلاحي
وجيه السرب اللي يخيب الرجاء فيها
كبار الكذاب مكثرين التمداحي
رجال بوقت الضحك تكبر عزاويها
تهبد الصحن وتفطح الهرج فطاحي
وعند اللزوم يبين للناس خافيها
يضيعون ويجي للعزاوي تبطاحي”.
وهنا قصيدة خالدة أخرى لشاعر(يام) علي بن بلال رحمه الله رحمة واسعة واسكنه فسيح جناته والهم أهله وذويه ومحبيه الصبر والسلوان قالها ممتدحا الداعي الأجل حسين بن الحسن قدس الله روحه الشريفه وسارداً تاريخ قبيلة يام وهمدان ومكرم قال فيها:-
اول القيفان بالله استعنا
يا اله الكون عنا وعف عنا
ثم أباشر سيدي بأسنا سلامي
في تماثيل على المعنى تبنا
وتقدم له بعهد مانخونه
لو يخون الغير في عهده ما خنا
عهد سيدنا حسين ونسل مكرم
قدوة الدين الحنيف بهم آمنا
قدوة تتبع محمد وهل بيته
أوليا امر يقتدى فيهم ظعنا
درسونا خير دين وخير مذهب
من امام بعد امام درسنا
ونصرونا بين صكات الحرايب
يوم ركبنا رحا الحرب وطحنا
كم وكم دارت رحانا فوق دوله
ون قسا صلب الحديد يلين منا
وعن بني مكرم وعن يام العريضه
بالصحايف خبرت ليام عنا
يوم عصر الخيل والجيش الاصايل
بالسيوف وبالرماح انتم وحنا
فاز بيرقنا على كل البيارق
يشهد التاريخ والشام ويمنا
فعل جداني وسيدي وابن سيدي
بالموازين الثقيلات ارجحنا
يوم قاموا ضدنا كل القبايل
انتصرنا وانهزم من حاربنا
والذكا والحلم فينا والحميه
والخلف يتبع سلفنا اللي مضنا
وانت داعينا وحنا فدوة لك
في نحر من حاربك نلبس كفنا
موقنين بالإله وبالرساله
وبالرسول وبالخلافه امتثلنا
والملام لكل من يعصى امامه
ون بغانا ننخذل له مانخذلنا
دام فينا داعي الاسلام دينه
يشرق القلب السليم و يطمئنا
دينا دين الحضانه والامانه
كل مخلف له عمل ولنا عملنا
وانت يا سيدي محل سراج الأمه
مذهبك عن كل بدعه يحتضنا
طالبين الله يحبنا حبنا لك
ثم يحبك حبنا لك يا جملنا
دعوة من قلب مسيود لسيده
اعجبه سيده وابن سيده وغنا
نعترف بالفضل في ساسك وراسك
وفيك وافية الخصايل توجدنا
ون تمثلنا صدقنا في المثايل
ون حربنا قوم نصدق في طعنا
والنهايه نذكر الهادي محمد
ونتبع الهادي وبالله استعنا
والحمدلله على كل حال ورحم الله (ابن بلال) وموتانا جميع وحفظ الله وطننا من كل سوء.
منصر لسلوم
ملحمة نجران موسوعة الشعر والشعراء