قراءة الدكتور غسان الحسن لقصيدة عناقيد الحزن مانع ابن جلاب

تعب يا صاحبي الدنيا تعب يا صاحبي المشوار
       تعب حتى الاماني متعبه فـي صفحـة أكتابـي
عجايب وقتنـا كلـه وهـم باسـم الامانـي صـار
          حرمني بسمتي واليوم جرحـي لوّن اثيابـي
يعيـش الـورد او يذبـل يطـول الـصـرح او ينـهـار
         سوالف جرحي الحمرا بعينـي تفـرض اغيابـي
يمر الوقت وش يعني مـدام الوقـت صـار غبـار
            غدا يومي مثل امسـي بكفـي حفنـة ترابـي
نعم يا صاحبي مليت جرحي .. دمعي المدرار
       تعبت آقف بكف الريح واسمع صرخة اهدابـي
كبر همي كبر جرحي كبر حزني وصار اشجار
      عناقيـد الحـزن منهـا بقلبـي ويـل مــا غـابـي
توفـى اللـون بعيونـي وناظـرت الزهـور احـجـار
       اشوف ان السما صحـرا كـأن بعينـي احجابـي
بوسط الشئ وللاشئ وقفت بخطوتي محتار
      وضاعت وجهتي ضيعـت دربـي ويـن محرابـي
غريـب وغربتـي ديـره ولكـن مــا بـهـا سـمـار
       بناهـا وقتـي الظالـم بشـوكـه ثــم تـلـوا بــي
حزين وحزني اكبر مـن سمـا فيهـا قمـر غـدار
       اذا جا اللـيـل مــا بــدد ظـــلام الليـل..كـذابـي
سوالـف..واه يـا دنيـا سوالـف والـجـروح اكـثـار
          دخيلك يا شفـق ويـن انـت خـل الكـون عنابـي

بدرالحزين.. مانع صالح جلاب

الدكتور غسان الحسن

اين المفر؟
لنا أن نعتبر القصيدة صادقه في التعبير عن صاحبها . لإنها نابعه من نفسه . ممثله لتفاعلاتها الداخلية والخارجية وليست مجموعة من الكلمات التي رصت متجاورة تبعاً لمقتضيات الصنعة وحرفة الشعر . انها تعبير عن الذات المبدعة وشحناتها الشعورية واللاشعورية0

ومن هذا المنطلق لنا أن نذهب مع القصيدة (( عناقيد الحزن )) ” لبدر الحزين ” المنشورة في (( قطرات )) العدد ( 805 ) لنستبطن نفس الشاعر ونتلمس معالمها . وماهية هذا الحزن الاسود الذي تملكها.
منذ الكلمة الاولى في القصيدة يتضح حجم المأساة المخيمة والحزن المقيم في نفس الشاعر . فهو يستهل قصيدته بالتعبير عما يواجهه في دنياه من ألوان المشقة والتعاسة وعواملها :
تعب يا صاحبي الدنيا تعب يا صاحبي المشوار / تعب حتى الاماني متعبة في صفحة كتابي

عجايب وقتنا كله وهم بأسم الاماني ســــــــار/ حرمني بسمتي واليوم جرحي لون ثيابي

وصل بنفس الشاعر الى حد الانهاك واليأس والاستسلام . وانظر الى كلمة ” تعب ” التي تطل بإصرار وتكرار من بين كلمات البيت الاول . لنلقي بظلالها على الدنيا وعلى المسيرة . بل انها تتغلغل في نفس الشاعر او استبقائه . مما يسلب الامل كونه نافذه للنفس في ظلمة الاحباط .
وتأمل ما يزخر به البيت الثاني من كلمات الوجع والمعاناه والضياع وهم … حرمني بسمتي جرحي.
لقد تكاثرت كلمات الحزن وعباراته . حتى انها لم تدع مجالاً لبصيص فرح . كلها عوامل فعالة في سلبياتها . وتأثيرها المدمر للنفس

ولا يقف الشاعر في تعبيره عن هذا الجو القاتم عند هذا الحد . ولا عند هذا الاسلوب . بل انه يلجأ لتعزيزهما بما ينم عن الدرجة التي وصلت اليها نفس الشاعر من الهزيمة . والانجراف في مهاوي السوداوية والظلمة .. حتى انه لم يعد يفرق بين ماهو مفرح وما هو محزن . وليس ذلك لعدم أدراك أو لنقص في معرفة الامور . وانما لأن النفس قد اسودت فما عادت ترى أملاً أو مخرجاً أو رغبة في مواصلة عيش …

وهكذا يتساوى العيش بالعدم .. والنضارة بالذبول :
يعيش الورد أو يذبل يطول الصرح أو ينهار/ سوالف جرحي الحمرا بعيني تفرض غيابي

ويشمل هذا السواد الزمان .. فلا عزاء في الماضي … ولا طعم للحاضر … ولا آمل في المستقبل … لقد تكاملت حلقة الحصار . ولا مفر لهذه النفس .. ولا منجى لها ولا شفيع :
يمر الوقت ويش يعني مدام الوقت صارغبار/ غدا يومي مثل أمسي بكفي حفنة ترابــي
نعم يا صاحبي مليت جرحي دمعي المـــــدرار/ تعبت اطرد أمل زايف يجر الصوت لعابي

هكذا أصبح الوقت كله ماضيه وحاضره في نظره كغبار متطاير لا غناء فيه … ولا اهمية له رغم أن الوقت هو العمر وهو الحياة .. كما اصبح كل أمل زائفاً .. رغم أن الأمل هو المستقبل .

(( تعبت اطرد أمل زايف )) . ان نفسه المعتمة لا تسمح له بأن يرى بريق ضوء في الآتي .. ولذا فانه يرفضه قبل أن يأتي . ووصفه بالزيف .
وأمام هذا الحصار يذهب الشاعر في ابياته التاليه الى تصوير حاله ببناء فني متقن . ينبع من الواقع . ويتبع بدقة متناهية . حقيقة الآمر داخل النفس وخارجها :

داخل النفس :
أنه يبدأ أول ما يبدأ بتصوير ما يعتمل في نفسه من داخلها . فاعطانا صورة صادقة للتشاؤم وفقدان الأمل .. وسيطرة الملل . وعدم الرغبة في اظهار أي رد فعل . كنوع من عدم الاكتراث . والوصول بالنفس الى انعدام الحيوية والتفاعل في اقصى درجات الاستسلام :

نعم يا صاحبي مليت جرحي دمعي المدرار/ تعبت اطرد أمل زايف يجر الصوت لعابي

مظاهر خارجية :
تعبت أمشي تعبت اشكي تعبت اعاند الاقدار/ تعبت اقف بكف الريح واسمع صرخة اهدابي

لقد شمل الاحباط والسواد المظاهر الخارجية للنفس . وافعالها الحيوية المعتادة . كالمشي . وردود الفعل الطبيعية كالشكوى .. والتفاعلات الايجابية مع الخارج كالمقاومة ( اقف بكف الريح ) والتفاعلات السلبية مثل الصراخ والتوتر العصبي ( اسمع صرخة اهدابي )

لا ردود فعل :
ويمضي الشاعر في تصوير حزنه القاتل . وما انعكس على نفسه من جزاء ملامسته للخارج الملىء بالعتمة والسواد . لقد تكاثرت عليه الهموم . والجراح . ونما الحزن وتصاعد . وأثمر عناقيد من الوبل والهلاك المائل . الذي لا خلاص منه :

كبر همي كبر جرحي كبر حزني وصار أشجار / عناقيد الحزن منها بقلبي ويل ما غابي

تبادل:
وكما انعكس الخارج على النفس . تنعكس النفس على الخارج . فهاهو السواد الذي تصطبغ نفس الشاعر به . يتناثر منها . ليلون بلون الزهور . التي تجمل بألوانها الطبيعية الحياة . فتبدو الزهور بلا لوناً ورائحة . وغدت جامدة مثلها مثل الحجارة . كما أن السماء بجمالها الأزرق . لم تعد في نظره تختلف عن الصحراء الصفراء :

توفى اللون بعيوني وناظرت الزهور أحجار / اشوف أن السما صحرا كأن بعيني حجابي
لقد كان هذا بداية لفقدان التفاعل السليم بين الشاعر وبين بيئته وما هو خارج نفسه . كل ذلك حدث بتأثير من العتمة المعششة في داخل النفس .

تفاقم :
وتتفاقم الحالة الى درجة فقدان الشعور بالأشياء . فقد جمدت النفس من داخلها . وتوقف تفاعلها مع الخارج . فتوقفت مصادر المعرفة . وانفق الفرق بين الصح والخطأ . والوجود والعدم . وأنعدم الاحساس بالمكان والوجهة والدرب :

بوسط الشي واللاشي وقفت بخوتي محتار/ وضاعت وجهتي ضيعت دربي وين محرابي

غربة :
وهكذا وصل الأمر الى نهايته المنطقية . وهي القطيعة والانقطاع ما بين الشاعر بنفسه المحطمة السوداء . وبين العالم الخارجي . فأضحى غريباً في صحرائه الخاوية من كل أنيس أو مواصل :

غريب وغربتي ديره ولكن ما بها سمار / بنآها وقتي الظالم بشوكة ثم تلوي بي

وحشة:
وهكذا خيم الحزن . ولكن هل هذه النهايه أوصلت صاحبها الى الراحة ؟ وهل الانغلاق على النفس . والنكوص والانعزال يأتيان بالفرح ؟ وهل الاستغناء عن الخارج . واجترار الذات والداخل يحلان المشكلة ؟
بالطبع لا . ففي ظلام العزلة . لن يجد الشاعر قد سعى الى الانغلاق على نفسه . فقد اكتشف فور بلوغ هدفه . ان نفسه لا يمكن لها أن تضيء ظلمة نفسه .
وان سعيه للوصول الى هذه الغربه وهذا الانغلاق . كان سعيأ الى خطأ .لم يجلب له الا مزيداً من تكريس الحزن . والعيش في دائرته .واجتراره .الى ما لا نهاية . دون أن يكون هناك بصيص أمل واحد في الخروج من هذا المستنقع الموحل .
لقد بدأ اكتشافه لهذا الأمر في قوله ” غريب وغربتي ديره ولكن ما بها سمار ” اذن . فالشاعر أوصل نفسه من حالة الحزن المطبق . الى حالة من الحزن الممزوج بالوحشة والانعزال وفقدان الأمل الأبدي . وهي حالة لا تطاق . بل ان الشاعر نفسه لم يطقها . فذهب يندب حظه . لان نفسه التي انغلق عليها لم تأت له بالحل أو المخرج . انها كالقمر الذي تخلى عن واجبه ولم ينر السماء المظلمة :

حزين وحزني أكبر من سما فيها قمر غدار / اذا جا الليل ما بدد ظلام الليل كذابي

رعب وتراجع :
لقد اوقع الشاعر نفسه في المصيدة التي نسجها فاتقن نسجها . واغلقها فاحكم اغلاقها . لقد أحاط به الحزن فاحال نوره الى ظلمة . وألم به الانغلاق حتى لم يعد يتفاعل الا مع نفسه اجتراراً وتكراراً . فغرق بذلك في وحل اضاف الى مشكلته عقدة جديدة . واظلاماً سرمدياً . سيؤدي به الى مدارك مجهولة . حطاماً غير معروف المعالم .
ولذا فان الشاعر لم يحتمل هذا الحال . وبدأ يبحث عن ثغره يخرج منها من حصاره .
لقد أرسل نفسه لتقتحم الليل البهيم . وقبل أن ينتصف الليل . أرعبته العتمة . والوحشة والانعزال . فلم يستطيع التقدم والايغال حتى يبلغ الفجر أمامه . وانما نكص على عقبيه متراجعاً . الى أواخر النهار . فهي أقرب زمناً وأسهل منالاً .
ومن هنا جاء تمنيه في بيته الأخير . لأن يظهر الشفق من جديد . ليذهب ولو بشىء يسير من العتمة المطبقة التي يعيشها . لقد طلب الشفق الذي يظهر بعد الغروب . وبداية الليل . مع أنه لا يبشر ببداية جديدة . ولم يطلب القمر الذي يظهر في نهاية الليل وبداية جديدة .
انها الهزيمة داخل الهزيمة أو الهروب من نتيجة الاختيار أو الرعب من شفا الهاوية والنجاة بأية وسيلة ولو كانت حلاً ضعيفاً (( خل الكون عنابي )) لقد حاول الشاعر تبرير هذا النكوص لارضاء نفسه . حين عزاه الى كثرة ما اصابه من الجروح . غير أن هذا لم يخف الرعب البادي في الشطر الأخير من القصيدة والمبدوء بقولة ” دخيلك يا شفق ” انها استغاثة الملهوف . وصرخة الغريق . الذي يبحث عن قشة ليتعلق بها . مع أن القشة لا نجاة فيها . تماماً مثل شفق الغروب . الذي لا يرجى منه نور واشراق :
سوالف واه يا دنيا سوالف والجروح اكثار / دخيلك يا شفق وين انت ؟ خل الكون عنابي
ومع هذا البيت الاخير من القصيده يختم الدكتور غسان الحسن تحليله .