مهدي ابن باصم آل مخلص اليامي … يتوكأ على قرن من الزمان #ملحمة_نجران

 

 

 مهدي ابن باصم آل مخلص اليامي … يتوكأ على قرن من الزمان

حاوره ابن عايض صالح

كأنما هو الماضي … ويقول للحاضر هذه ثمرة العمر كل ما تحتاجون للمستقبل هذه هي أسرار نجاحي فيما مضى ومفاتيح ستساهم في تفوقكم فيما هو آت.

كأنما هو ذات “كان يا ما كان”

قرن من الزمان في إصلاح ذات البين إن لم يكن بالعرف القبلي والعادات والسلوم والحل والعقد وإلا فمن خلال مركز ثار كمستشار لمجموعة من الأمراء، من عهد دليم القحطاني وحتى ابن جالي والأحيمر وابن بريك، وانتهاء بالمحافظ اليوم ما زال يستشيره.

قرن من الزمان في التفقه في الدين والعبادة وعمارة المساجد.

قرن من الزمان في شعر الحكمة والأدب.

قرن من الزمان في فرض الحكمة ودحر التفرقة، رغم تحفظه على القضايا التي قاد الحلول فيها حفاظا على استمرارية الصلح آثر عدم الذكر ومنفعة العامة على منفعته الخاصة، مكتبته تمتلئ بالعقود والمواثيق والمخاليص ولم يسمح لنا بالاطلاع أو الإشارة لها.

لقد شب على التدرب على الحكمة والعقل والدين ولأنها السلاح الأقوى للإنسان تقوى فيها بكل ما أوتي من قوة، وفي أولى وقوفه أمام الأخصام مع ابن أخيه عايض ابن باصم في قضية كبرى كان هو المدعي ولم يخط له شارب مما جعل الخصم يقول “خصمي ما أدري حالم ما أدري عالم” وفي الخاتمة حكم له الشيخ وكان هو المنتصر وصاحب اليد العليا.

الشيخ مهدي ابن باصم آل مخلص اليامي غني عن تعريفنا ولكننا نحاول في مُثار إثراء المحتوى النجراني من خلال لقاءات مع بعض من الشخصيات دون قيد أو شرط.

صاحب لقاءنا، رجل اجتماعي من الطراز الأول ورجل دولة بمرتبة حكيم، ولمَ لا؟ وهو الذي عاصر كل هذا التحولات العظمى في بيئته ومنطقته منذ أن كان المركز الحكومي خيمة والسجن خشبة، منذ عهد النشمي ومن قبل عهد السدارى، لقد كان حاضر في أغلبها إن لم يكن كلها، كان الكل يعتمد عليه لأنه من أول من قرأ وكتب، وكان بداخله شيء يتقد ألا وهو أن يكون كما يجب وأن يخدم أهله وديرته حبا ووفاء، لقد ساهم في التحول من مجتمع بلا قانون إلا شرائع نجران ويام وهمدان القبلية فيما يخص الجار والصاحب والعاني صاحب رابطة الدم من الأجانب، والثأر في الفعل المشين “المثار الأبيض والأسود” عندما سألنها هل كانت عائق أمام أنظمة الحكومة؟

قال لا بل أنها ساندت وساعدت في ترسخ النظام والحكم، الشرائع سنن متعارف عليها، يكفي أن تأخذ من الرجل كلمة وتلزمه وتلزم ذويه وورثته من بعده.

إلا أن التحول إلى مجتمع مدني يقتسم الأرض والماء ويعتاد على الجار الدائم كان فيه شيء من الصعوبة على قبائل كانت تؤثر التصرف بحرية وبفردية، لذا كانت الحكومة ذات ذكاء وسياسة عالية جعلت التصرف في بادي الأمر شركة مع الشرائع حتى اليوم، أي قضية خلاف يكون الحكم القبلي هو المقدم لما فيه من حفظ دائم وعهود ومواثيق ملزمة لكلا الأطراف.

أبو مفرح مهدي بن باصم وعدنا بتوثيق البعض منها وبتوثيق شيء من سيرته مستقبل.

نبدأ …

بعد أن استأذنت مقابلته أتى يتوكأ على عصاه يمشي كأنما هو ذاته قبل أربعين عاما بهيبة الحكمة وقوة العلم وحنكة الدهاة، كأنما هو ذلك الذي في تصورنا بأنه قادر على أن يفعل ما يريد فقط يضع الهدف ويحققه ليس بحول منه أو بقوة كما يقول بل بتوفيق رب العالمين، بعد كلمات تشجيعية كرر كلمته المعهودة ” يا مجمل ما مضى جمل ما بقى” رجل من حكمته لا يحتاج للكثير من الكلام ليشرح لك ولا تحتاج للسرد والثرثرة أمامه، يعرف ما تعرف وأنت تعرف ما يريدك أن تعرف.

سرد لنا بعض من محطات الحياة،

عندما كان عمر خمس سنوات توفي باصم تاركا أرملته مع ولدها وشقيقاتها تحت رحمة رب العالمين، كان التحدي هنا أكبر بكثير من طفل لا يعرف من الحياة سوى بأن القوي يأكل الضعيف ولا يقبل بالضعفاء، كرس جهده لأجل شقيقاته ولأمه ولحفظ اسمه وكرامته، عندما اشتد المرض بأمه، قالت سأذهب للداعي الشيخ المكرمي علي بن حسين حيث أن باصم قد أسر لها بشيء قبل وفاته بأن في نجران من سيساعدها إذا كان الأمر أكبر مما تحتمل، أخذت بناتها طفلتين لا يتجاوزن الخمس والست سنوات وتركت أبنها مهدي صاحب لقاءنا مع الإبل مع أخواله هادي ابن حمده وربعه أينما ذهبوا يذهب.

وصلت على حصن الشيخ المكرمي وأرسلت مرسولها ووصلها الرد سريعا بأن يتم تجهيز مكان لهم ومعالجة الأم، آواهم عنده حتى وافة المنية الأم وتم دفنها، ومع أول معرفة من آل مخلص عادتا الطفلتين على بعير لهم، وبالقرب من سدرة في وادي ثار كان مهدي يتجول مع أبله ولكنه شعر بشيء من القشعريرة، لقد أستشعر تواجد أمه وشقيقاته لمح بعيرهم فعرفه أنفتل عليهم فارحا ومرحبا ولكن الدموع كانت أولى عتبات اللقاء والشكوى من أحد شقيقاته أمي ماتت، موقف لم ولن ينساه، بكاها وبكى أمه وبكى شقيقاته، واقسم على نفسه بأن لا يقبل إلا بكل جميل ويحقق كل هدف نبيل ولكن آثر الصمت والهدوء.

في عام 1375 هجرية أنطلق فردا وحيدا في حياة كانت شحيحة الموارد صعبة المراس شديدة التنافس، وفي رحلة برية على الجمال والمورات، حتى الرياض ومنه إلى حفر الباطن وعلى أقاصي الحدود الشمالية، كان المذكور والمعلوم وظائف في الجيش السعودي، وصل وكان له بعض من المعارف على سبيل الذكر للحصر سعادان ابن المهيص آل مخلص ودخل الجيش تحت إدارة القائد علي ابن ذياب آل منصور ذائع الصيت في حرب السعودية العربية مع اليهود، قائد الجيش السعودي كان اللواء سعيد العمري.

على مدار أربع سنوات دون انقطاع تعلم خلالها الكتابة والقراءة، وكان يكرس جهده لتأمين نفسه وشقيقاته ويرسل بعض المبالغ المالية إليهم ولشراء بعض من الحلال، عاد وقد اشتد عوده ورسخ عقله وجرب وعرف، ولكنه عاد بعد أن قطع ابهامه اليمنى أثناء العمل في مصنع القنابل.

يتذكر اليوم الذي قدم فيه على الوظيفة في إمارة نجران، يقول سرحت من منطقة قريبة من الجزم محتزم بجنبية وبندق في يدي، أجري قليلا وأمشي مثلها ولا أمسيت إلا في دحضة، أنجزت أرواقي ولم يأتي اليوم الثاني إلا وأنا عندي أهلي، كانت أثناء حرب السلال في اليمن وشارك فيها.

تزوج درعة بنت كاشر رحمها الله وأنجبت له ثلاثة أبناء صالح مفرح وعايض وغيرهم وستة غيرهم وابنتان، بدأ في رحلة تطوير منطقته وأخذ على عاتقه تسهيل أمور ربعه وجماعته، كان هو الوحيد الذي يقرأ ويكتب، ولم يتوانى في مساعدتهم دون مقابل.

اشترى سيارته الأولى وبدأت رحلة الحياة المتزنة والتي لا تخلو من الفجائع والفقد والفرح والحزن، أشدها وأكثر وطأة على النفس بل أنه كاد أن يجزع هو في وفاة ابنه البكر صالح وهو في عمر العاشرة يدرس الصف الخامس، ولكنها أخذته إلى الفقه والرحلة الدينية والحج.

كانت أول حجة له على سيارة مع ظافر بن بنجر آل مخلص، وبعد أن تطعم لذة الدين والخلاص والتطهر، شعر بأنه له موتى لم يحجوا فقام بواجبهم وحج أكثر من 15 حجة لأقربائه وروابط دمه، وبدأ قرن من الزمان في رحلاته الدينية وعلى أثره تكلل بناء المسجد في الرحبة وبناء منازله وابنائه حتى اللحظة.

كانت مدرسة ثار ابتدائية وفي صفيح وخشب، وهو ما لم يكن يؤلها لتكون متوسطة وثانوية، استدان مبالغ طائلة لبناء مدرسة خرسانية متينة، وكانت الفاجعة الأخرى والتي كادت أن تنهي ولكنه يكرر لولا توفيق الله ما كنت هكذا، رجل منقطع النظير في استعانته بالله في كل أموره، اليتم يعلمك الاعتماد على نفسك والدين يربي على التوكل على والاستعانة به ومراقبته لك في دقيق الأمور وجلها.

لا ينتظر الحلول بل يصطنعها، وقال في نفسه يجب أن نبادر في بناء مدرسة ونؤجرها على الحكومة ونعتمد المراحل المتوسطة والثانوية، بحث عن مقال ووجد ضالته فيه، من اليمن الشقيق ويتذكر اسمه جيدا “احمد البيضاني” تحايل عليه لتسليمه كامل مبلغ مائة وعشرين ألفا تعادل مليون بحسبتنا اليوم، مرت اليوم الأول والثاني والأسبوع وكأن الرجل تبخر من الوجود وحتى اليوم؟ سألنه قال وحتى اليوم لم يظهر ول أعرف إليه سبيلا.

حاول البحث عنه ولم يجد له أثر، كانت اشبه بالقاصمة أو الضربة القاتلة لرجل مبتدئ ولكنه لم ينكسر ولم يستسلم واستدان وبنى المدرسة واعتمدوا المتوسطة والثانوية وكانت فاتحة خير على أبناء ثار وخرجت عباقرة ودكاترة وضباط.

عندما سألنه هل كنت تعمل وحيدا أم معك رفقاء وأعوان، قال الرجل لا ينجح إلا بربعه وبني عمه، ولا أنسب الفضل لي، وذكر أكثر من عشرين رجل من أعيان وشيوخ ثار وعلى رأسهم رفيق دربه الشيخ حمدان ابن رفعان “الضويلع” ونتحفظ عن سردهم هنا لأنه قال الذاكرة ربما لا تسعفني فلا أريد أن أجحد حق أحد.

طالبوا بالمخططات السكنية والزراعية والدوائر الحكومية لم يتركوا شيئا للصدفة، لم تكن مرضاة المسئول وتملقه شيء وارد بل أن تكون منطقتهم في أفضل حال.

ذكر بأن المسئول الوحيد الذي زراها كانت زيارة الأمير نايف بن عبد العزيز قبل أكثر من ثلاثين عاما.

كأنما يحملنا نحن الجيل الحالي كل تقصير، يقول لم نكن نرقد مثلما تفعلون كان الواحد منا حتى وإن لم يكن لديه شغل أشغل نفسه في أي شيء الأهم لا يكون هناك فراغ أو كسل.

أبو مفرح متزوج حاليا من أبنة الشيخ محمد مانع ابن لجعه وعليها سبعة من الأبناء والبنات.

الآن هو يتوكأ على عصا النجاح، وتحقيق الأهداف، يقول سر نجاحي توفيق من الله، كل ما عليك أن تسعى ليتحقق لك التوفيق، كن طاهرا، كن عفيفا، جاهد نفسك، وتحمل قريبك،

راضني وأرضيك دمنا على قيد الحياة

لا تجافيني وتبكي علي بين القبور

واجب الفزعات في الضيق دام لها طراه

ما لها ذوق لما جات من عقب القصور

من أولى قصائده التي يتذكرها:

علمـنـي الـوقـت وهــو الـلـي مربـيـنـي

كـــم مـــرة فــــي مـقـاديــره تـوطـانــي

والظـاهـر إنــه إلـــى ذلـحـيـن نـاويـنـي

لالـه صليـح ولالـه فــي الـعـرب عـانـي

مـــرٍ يـجـيـنـي بضـحـكـاتـه وينـبـيـنـي

ومـرٍ يـهــاجــم بـغـفــلاتــه وبــكــانـــي

الله يـقــهــرش يـاالـدنـيــا قـهـرتـيـنــي

أنــت تعيشـيـن والـلـي يطلـبـش فـانــي

وإن جيت باتـوب مـن حبـش جبرتينـي

وقلـتـي تـجـرب بفـعـل فـــلان وفـلانــي

عندما يرثي حاله وتغير أحوال الأرض والبشر:

يا ليت حنا ما سرحنا مـــــداوير 

 ولا بدينا في خشــوم الطوالــــــــي

الله لا يجزى طويل المثل خيــــر

ذكر علي قلبي و أنا كنت سالـــــي

يا دار وين مدلهين المسايــــــير

 على المجالس بالشحم و الـــــدلالي

وين الرعايا اللي تسج المخاضير

عرب مصاييف وخور متالي

منزالهم تذرى علــــيه المعاصيـر

 والدار من صوت الرجاجيل خالــي

وفي قصيدة أخرى:

لكون الزمان يطيع ولا خذا لي شور

تمنيت وقت قد مضى زيد يأتيني

تلومونني في طلعت البر يا جمهور

وأنا ألومكم في بعض ما أنتوا مسويني

وأنا أفضل الوحدة ولا مجلس به زور

وناس على غرات الأجواد ضاريني

في قصيدة يستحث الرجل على الأفضل:

اشترك في الجماله قدر ما تستطيع   

دام تقدر على العليا فخلك قوي

لا تنزل رفيع ولا تحقر الوضيع  

  ولا تكاثر كثير ولا تشاوى شوي

وفي أحد أبلغ بيوت الشعر يرثي فيها عايض ابن باصم الله يرحمه:

وكبدي ضمانه والضمأ ثابت ما زال

      ذبحني شورب الماء ولا هو بيسقيني

مُثار علوم وأخبار